السلام عليكم ورحمة الله
بداءً اود التنبيه الى انها سلسلة ممتدة منقولة من كتاب الطريقة القادرية في السودان والدعوة الى الله
للكاتب الشيخ: محمد الخليفة الحسن ابوقرون
الشـيخ الهـمـيم
ميلاده وبدايتـه:
هو محمد بن عبد الصادق بن مالك بن ماشر بن ركاب بن غلام الله جد قبيلة الركابية ووالدته بنت الشريف حمد أبو دنانة.
لم يذكر العام الذي ولد فيه الهميم إلا أنه فيما يبدو من مواليد عام 954هـ([1])، قرأ القرآن إلى سورة الزلزلة وعند لقائه بالشيخ البهاري لم يكن قد تجاوز العشرين سنة. ورغم أن بدايته وصياغته الصوفية كانت على يد الشيخ البهاري، إلا أننا نرى أن له أسباباً قوية تربطه بالتصوف فهو من والدته يعزى إلى العترة النبوية الكريمة بوالدها الشريف حمد أبو دنانة، ومن آل البيت الطاهر نبع التصوف. كما أن الشريف أبو دنانة ينتمي إلى الطريقة الشاذلية([2]). فلابد أن يكون لهذه المكونات أثرها في خلق الاستعداد الذي جعله يتعلق بالشيخ البهاري من لحظة التقائه به واستماع حديثه عن التصوف.
طـريقـه الصـوفي:
مسلكه للطريقة القادرية، فقد أخذ بيعتها من أستاذه البهاري الذي التقى به أثناء طوافه بشرق الجزيرة، ولكنه لم يسلك عليه في هذه الأثناء، وفيما يبدو عزم على السلوك في أول فرصة تتاح له، وهذا العزم هو الذي جعله أول قادم على المبايعة بأربجى رغم المخاطر التي تحف بها، ولم يفارق أستاذه البهاري بعدها إلى أن سافر إلى بلاده.
لقبّه البهاري بالهميم وهو لقب لم يعرف به قبلاً. يروى أن والدته سمته حسان فقال لها البهاري: ولدك عبد الله اسمه محمد الهميم، وسبب التسمية هو (أن الشيخ قال له: يا محمد جيبو لنا دوكة ([3]) وهو يومئذ في قرية أربجى فاشتراها. وشالها فوق رأسه فوجد الشيخ سافر إلى سنار. ولحقه في سنار وهي على رأسه ولم يجده، وقالوا له سافر إلى بلده فلحقه في الغويبة وهو شائل الدوكة على رأسه. فقال له شيخه: يا محمد يا ولدي هذه همة تصلح بها لإقامة دين الله عز وجل، فوقع مغشياً عليه وسافر الشيخ إلى وادي شعير. وقال لهم: إن مات ادفنوه وإن عاش يلحقنا. فهذه الغيبة لا يفيق منها إلا في وجه رب العالمين)([4]).
الهميم خليفـة البهاري في السودان:
عندما أراد الشيخ البهاري السفر إلى بلاده، جمع تلاميذه ليطلعهم على ما عزم عليه من تأييد التلميذ الذي يراه مناسباً ليكون نائباً عنه، في القيام بأمر الطـريقة وحركتها في البلاد. وبعد عبارة توضح الغرض من الاجتماع قال لحيرانه: أنا جئت من بغـداد لأجل هذا الولد يعني محمد الهميم، خلفته في مكاني. مثل ما بتعاينوا لي عاينو له ([5]). وبهذا أصبح الهميم خليفة للبهاري بلا منازع. وقد طالب الشيخ البهاري من عامة التلاميذ بما فيهم الشيخ بانقا والشيخ عجيب وحجازي بن معين وغيرهم أن يوفوا بالطاعة للشيخ الهميم كما كانوا معه. وقـد كان لحديث البهاري أثره الكبير على تلاميذه فأوفوا بما التزموا به نحو الهميم.
أعطى البهاري خليفته الهميم التوجيهات التي تفيده في مستقبل حياتـه وكذلك فيما يتعلق بأمر الطريقة. وأنبأه بتوقف العمل بعده إلى حين. فقال له: يا ولدي سبع سنين لا دين ولا دنيا وبعدهن يجيك الدين والدنيا وتسكن أرضاً يقال لها النادرة([6]).
وبعد سفر الشيخ البهاري رضي الله عنه إلى بلاده آلت الخلافة القادرية البهارية إلى الشيخ الهميم فلازم الأوراد منقطعاً للذكر والعبادة سبع سنين في خلوته (بدلّوت)([7]) وقد كانت هذه السنون هي المدة التي وعده بها أستاذه بالفتح في أمر الدين وتربية المريدين، فتوافد عليه الناس من كل حدب وصوب بغية الإرشاد والبركة. فرحل إلى رفاعة ثم المندرة التي كانت المقر الأخير له عليه رحمات الله. استجاب له كل تلاميذ الشيخ البهاري الذين أوصاهم بالانقياد له فالشيخ بانقا مع تقدم سنه والمشقة وبعد المكان من أرض الحمر كان يزوره في المندرة كل سنة، والشيخ عجيب المانجلك مع مشاغل الملك، كان يذهب إلى المنـدرة في حشد من الوزراء والجنود فإذا ما اقترب منها منع ضرب النقـارة. وخلع لباس الملك ولبس جبة الشيخ تاج الدين ([8]). ويعني (خلع الجبة وإبدالها بجبة الفقراء أهل الطريقة، ومنع ضرب النقارة التي تظهر هيبة الملك إظهار لما يكنه لخليفة الطريقة من آداب كانوا يعاملون بها أستاذهم البهاري الذي طالبهم أن يعاملوه بها: (مثل ما بتعاينوا لي عاينو له).
والشيخ عبد الله العركي مع أنه لم يكن من التلاميذ الذين أخذوا من البهاري في أربجي وغيرها و التزموا بالطاعة للشيخ الهميم، إلا أنه رأى أن أدب الطريقة وسلوكها يلزمه بالآداب مع الشيخ الهميم كغيره، فكان يذهب لزيارته في المندرة ويجلس الشيخ الهميم على العنقريب وهو على البرش في الأرض، وليس في هذا الجلـوس تقليل لشأن الشيخ العركي أو غيره، بل جرت العـادة أن يتأدب الأصغر مع الأكبر، ويرون في هذا تعليماً للنفس أدب التواضع، وهو يزيد من شأن صاحبه ولا ينقصه.
خـلـفاء وأبناء الهـمـيم:
أول من تولى الخلافة بعد الشيخ الهميم ابنه الشيخ علي النيل وهو ثاني خليفة للشيخ تاج الدين في بلاد الفونج. سلك الطريقة على أبيه الشيخ محمد فأرشده وأقامه مقامه في السلوك وتربية المريدين، حتى إنه سمي النيل لكثرة إرشاده وكان على قدم من الزهد والورع إلى جانب الخليفة علي نذكر بعضاً من أبناء الشيخ الهميم على الترتيب الآتي:
الشيخ حمد أبو قرون بن الهميم الشهير بـ(حمد الحار) والشيخ نور الدين والشيخ الصافي والشيخ مصطفى، الشيخ دفع الله، الشيخ الطاهر والشيخ مختار والشيخ محمد البنبيري والشيخ شريف وأم حقين بنت الهميم([9]).
تسـلسـل الخـلافــــة:
تدلت سلسلة الخلافة الهميمية بعد الشيخ على النحو التالي:
الشيخ الجنيد بن الخليفة علي النيل، الشيخ الزين بن الجنيد، الشيخ الهميم الشيخ الزين، الشيخ الطائف، الشيخ الزين، الشيخ عبد الرحمن الشيخ، الشيخ مصطفى البكري، الشيخ الطيب الضو، الشيخ أحمد البدوي بن الطيب أبو شام، الشيخ طه بن أحمد البدوي، الشيخ علي بن طه (المرين)، الشيخ محمد بن طه، الشيخ أحمد بن طه وأخيراً الخليفة الحالي هو الشيخ علي بن محمد (الهميم).
تلك هي الخلافة بمنطقة البنية الصادقاب، وقد أوردناها عن الشيخ الطيب الشيخ علي المرين الذي أيده الشيخ محمد بن طه (رقم 11)، وخلافته في منطقة الهلالية.
الشـيخ الهـمـيم المُفتـرى عـلـيه:
الحديث عن الشيخ محمد عبد الصادق يستلزم الوقوف طويلاً أمام أمر متعلق بسيرته، وينسحب على مجمل الطريقة القادرية بالسودان، إن لم يكن التصوف كله لأنه رأس الرمح بعد الشيخ تاج الدين البهاري. وهو أمر أثير كثيراً وتناقله الناس دون الوقوف عنده، وكل يسرد على ذمة الراوي بحسن النية أو بسوء الطوية، والأمر يدعونا إلى اتباع قوله تعالى: {يَا أيُّها الَّذينَ آمنوا إذا جاءَكم فاسِقٌ بِنَبأٍ فتبيّنوا أَن تُصيبوا قوماً بِجهالةٍ فَتُصبحوا على ما فعلتم نادمين} [سورة الحجرات:الآية 6]، ولنقف أمام مصدر الرواية ونصها لنعلم ما لها وما عليها، فقد ورد في ترجمة الشيخ محمد الهميم في كتاب الطبقات للقاضي محمد النور ابن ضيف الله ما يلي:
(واعلم أن الناس أنكرت عليه إنكاراً شديداً. أنكر عليه القاضي دشين قاضي أربجى أن الشيخ جاء صلاة الجمعة في أربجى فلما خرج من الجامع ركب على جواده فمسك القاضي في عنان الفرس فقال له: خمست وسدست وسبعت تجمع بين الأختين تخالف كتاب الله وسنة رسول الله فقال له: الرسول أذن لي والشيخ إدريس بيعلم. فسأل القاضي الشيخ إدريس: هذا الكلام صحيح؟ فقال له: خل بينه وبين الله تعالى قال له: ما بدور هدايتك بدور شهادتك. قال له: البعتق له معتوق برجع في عتقه؟ الرجل هذا الله عتقه وقال القاضي: جميع هذه الأنكحة فسختها ودعا عليه، وقال: الله يفسخ جلدك، فإن القاضي مرض مرضاً شديداً فانفسخ جلده مثل قميص الدبيبة).
وشطح الشيخ شطحًا مع كونه أميًا لم يقرأ إلا الزلزلة فقال شعراً:
فإن كنت يا قاضي قرأت مذهبا
فـــمذهبكم نصلح به بعض ديننا
قطعنا البحار الزاخرات وراءنا
حـلـلــنا بواد عندنا اسمه الفضا
فـمـا تدري يا قـاضي رموز مذهبنا
ومذهبنا يعجم عــليكــم إذا قـــلنــــا
فــلـم يدرِ الفــقهاء أين توجــــهنـــا
فضاق بنا الوادي ونحن ما ضقنـــا
وانظر هذا الشطح العظيم الذي لم يقع إلا من الجيلاني والبدوي والرفاعي وقع من رجل أمي لم يقرأ شيئاً إلا من الزلزلة إلى الناس) أهـ.
ولنعمل الآن مقص التشريح في هذا النص. وقبل البدء في التعامل مع النص نفسه نتعامل مع مورده. فقد تكررت هذه القصة في عدد من الكتب، مرة من باب المدح وتارة من باب القدح، ولكن الفحص المتأني يقود فقط إلى طبقات ود ضيف الله حيث نقلها الجميع من هناك لذاك فقد اخترنا التعامل مع النص الوارد أساساً، ومع كتاب الطبقات كناقل للخبر والثابت بدءاً النسخ الخطية الأصلية مفقودة، وما تم تحقيقه وطبعه كان من نسخ بعيدة في زمانها عن الأصل، وإن كان هذا لم يقدح في عموم الكتاب، إلا أننا نلتزم الحيدة في حكمنا على ما نعلم يقيناً عن الرجال، وهذا يجعلنا نلجأ إلى محاولة فهم الأسباب التي أدت إلى ورود الرواية بشكلها هذا ومدى انطباقها على واقع الأمر.
إن الحكم على التاريخ لا يتأتى بسهولة ويسر المنقول من أحداثه يكون عرضة للتلف بسببين أساسيين:
(1) وصول الرواية المنقولة شفاهة أو كتابة بصورة متأثرة بآراء ومعارف وقياسات الناقلين. ونظرة بسيطة لعلوم الإعلام الحديثة تبين مدى التغيير الذي يمكن أن يطرأ على ما يتم تناقله في زمان بسيط عبر أوساط اجتماعية متباينة الثقافات.
(2) الأحداث والشخصيات المؤثرة في مجتمعاتها تجد دائماً من يقف لها بالمرصاد متحينًا الفرص للتقليل من شأنها. ولذلك السبب الثاني لاختلاف الماضي هو ما يعرف بالدس في النصوص التاريخية وهذا الأمر لم يسلم منه عظيم. ولم يأمن جانبه أي كتاب سوى كتاب الله الكريم لأنه تعالى تكفل وتعهد عز وجل بحفظه.
والمسألة في رأينا لا تخرج عن هاتين الدائرتين ونحن إلى الآن أميل خصوصاً إذا استحضرنا روح ذلك العصر في السودان، نجد أنه من المقبول أن نقلاً سيئاً لحدث ما أو اختراعاً لنسيج الرواية قد تم جهلاً وبحسن نية. لارتباط حياة التصوف الروحية بالفتوحات الربانية والكرامات، والأمر أيضاً ارتبط على نحو ما بما يأتيه بعض من يدعي التصوف مما يخالف الشريعة الغراء احتجاجاً بالوصول إلى مراتب القرب الإلهي. وكما قيل:
وليلى لا تقـــــر لهــم بذاكــــــــــا
وكــل يدعــــي وصـلاً بليلي
وهذا هو ما دفع شيوخ الطريقة الراسخين جزاهم الله خيراً إلى وضع مؤلفاتهم الجليلة لبيانه، فكانت الرسالة القشيرية للإمام القشيري وكان إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وكفي بهما دليلاً على أن هناك من يضع العقبات أمام صفاء سير الرجال. والأدهى أن يقود الإحترام وإسباغ القدسية إلى عدم المقدرة على النقد الواعي، بل على العكس من ذلك تأتي محاولات التبريرات التي تزيد الأمر وبالاً. وقد كان دافعهم في ذلك ما يعلمونه يقيناً من فضل الرجلين وكان الأولى في الرواية الواردة الحفاظ على مكانتهما، واحتفاظاً بمنطقية الأمر أن ينفوا الحدث الذي تحمله الرواية الغير صحيحة، والذي لو أثبتناه كما هو لكان لزاماً علينا التسليم بأمور خطيرة وكثيرة تفت من عضد الإسلام بالسودان. ويمكننا بيانها ملخصة في نقاط أهمها:
(1) الطعن في نظام الدولة الإسلامية الذي كان قائماً وذلك بالطعن في الشكل الإجرائي الذي تمت به المحكمة. فالثابت في كل الوثائق التاريخية من مشيخة العبدلاب التي كانت منطقة أربجى تقع تحت إدارتها عرفت نظاماً قضائياً مطابقاً لنظام الحسبة في العصور الإسلامية الزاهرة([10]). وأن نظام التقاضي كان نظاماً مكتملاً ومميزاً بتعين من القضاة الذين درسوا على الشيخ بن جابر وعينهم الشيخ عجيب المانجلك، وكان من ضمنهم ثلاثة يهمنا أمرهم. وهم القاضي دشين والقاضي الشيخ عبد الله العركي والقاضي الشيخ يعقوب بن بانقا ،الثلاثة تشهد لهم أفعالهم ووثائق التاريخ وما تركوه من آثار علمهم بالصلاح والتقوى والصلابة في الحق ووثائق العبدلاب([11]) تجعلنا نرفض جملةً وتفصيلاً، أن يكون القاضي دشين قد حكم على الشيخ محمد الهميم ممسكاً بعنان فرسه واعتماداً على معرفته الخاصة دون دعوى يرفعها عليه أحد بل ودون متابعة لتنفيذ.
بل أن التناقض الذي يبين لكل ذي تدبر هو أن النفس التي لا تقبل سلوكاً كالذي تم وصفه معتمدة في ذلك على علم شرعي، لا تقبل شهادة من علم الباطن كالتي طلبها القاضي دشين من الشيخ إدريس، وهو يعلم أن الحكم الشرعي لا يقر به. وعموماً إذا راجعنا تفاصيل أساليب التحاكم والتقاضي في ذلك الزمان نجد أن مثل هذه الرواية لا تخرج عن كونها مستحيلة عقلاً وشرعاً.
(2) الطعن في مجموع علماء السودان، إنهم لم يحركوا ساكناً، وتركوا الأمر حتى يقع القاضي على الشيخ صدفة فيحاكمه، وهذا ما لا نعقله إذا علمنا أنهم كانوا يثورون ويقومون بسبب إمور لا ترقى لأطراف هذا الأمر مثل مناظرات الشيخ إدريس ود الأرباب والشريف عبد الوهاب في حكم الدخان، والتي وصل الأمر فيها إلى استفتاء علماء الأزهر. فهل كانوا بمثل هذا التهاون في المقاضاة التي يستباح فيها حمى الشرع. وبالطبع فانه لا يجرؤ أحد على القول بعدم معرفتهم لما كان حادثاً وإلا لعاكس الرواية نفسها إذ تم افتتاحها (بإنكار الناس)، والعكس الثابت من اشتهار أمر الشيخ الهميم باعتباره خليفة الشيخ البهاري بل أن الشيخ عجيب المانجلك الذي عرف بالتقوى والصلاح واجتهاده وحزمه في أمور تطبيق الشريعة، كان يزور الشيخ متأدباً حافظاً لمكانته ولا تحسب أنه لم يكن يعلم شيئاً عن نسائه التسعين! أو زيجته من بنات الشيخ بانقا على الأقل ! ولا نحسب أيضاً أنه علم ورفض حكم القاضي وتلك لعمرنا طعنة كبرى في قلب الجميع.
(3) الطعن في شيخين جليلين هما الشيخ بانقا الضرير والشيخ القاضي يعقوب بن بانقا والأمر بالنسبة لهما أدهى من مجرد السكوت على مجاوزة للشريعة ، بل يتعداه إلى التطوع له بأدوات تجاوزها دون وازع من ضمير أو دافع من رجولة، فهذا يقدم بناته وهو غير جاهل بما يفعل، وذلك يرضى بهذه البلية وهو يحمل نفسه مؤهلات القاضي الذي عارضها فيما بعد! ألم يكن هو الأجدر بتفادي الأمر قبل وقوعه؟ وهو تلميذ الشيخ عبد الرحمن بن جابر وعامل الشيخ عجيب المانجلك على تحقيق العدالة.
وما يجعل الأمر غريباً أن شجرة انساب الشيخ بانقا لم تعرف له بنتين بهذين الاسمين: خادم الله وكلتوم. إنما كانتا بنتاه هما (بتول الغبشا) والدة الشيخ هجو ونقاوة والدة الشيخ عبد الرازق أبو قرون، كما لم نجد نسلاً للشيخ محمد الهميم من هاتين البنتين. قال الشريف حماد زين العابدين: إن الشيخ الهميم لم يتزوج واحدة من بنات الشيخ بانقا ، فضلاً عن الجمع بين الأختين.
وقال الشيخ موسى بن حماد: إن أحفاد بانقا معروفون لدى الجميع، إلا من ذكر ود ضيف الله(1).
(4) افتراض إن التصوف الإسلامي لم يكن ذا أثر عميق في نفسية الفرد السوداني، بتأميننا على جمل إشارات واردة في النص مثل (واعلم أن الناس أنكرت عليه إنكاراً شديداً). وفي ترجمة القاضي دشين وردت الإشارة إلى أن القاضي دشين سمي بقاضي العدالة، لأن دعوة الشيخ الهميم لم تزده إلا يقيناً، وهذا كله يعطي انطباعاً بوجود كثير من الخصوم للشيخ الهميم أو على الأقل من ناصر القاضي لموقفه هذا. عكس ما عرف عن خلق السودانيين وقتها، خصوصاً لو صاحب قضية الشيخ الهميم مثل هذه الخارقة فإنها ستكون له لا عليه، ولجزم الناس بان القاضي أصابته دعوة الشيخ وليس ثمة من يدعوه عادلاً بعدها. والمسألة أن دهشتنا ستتعاظم إن علمنا أن من أهم مساندي القاضي الذين أثبتهم الكتاب هو الشيخ فرح الذي تتلمذ فيما بعد على سليمان الطوالي تلميذ الشيخ الهميم.
وفي ختام مرافعتنا نقول إن هذه الرواية لا يستقيم لها عود على الإطلاق. فلا يعقل أن يكون الشيخ الهميم في شبابه متديناً زاهداً ورعاً قدم نفسه للذبح من أجل الموت على الإيمان، وينقطع في خلوته سبع سنين للعبادة والذكر وخدمة المحتاجين، وتمتد به الأيام على هذا النهج ثم في عمر الشيخوخة والزهد القهري تثور رغبته في ملذات الحياة بصورة لا تعقل، ولا تخطر ببال فيتزوج من تسعين امرأة ولا يفرق في ذلك بين الحرام والحلال.
ويبرر صاحب الرواية نسيجه بأبيات من الشعر ينسبها إليه باسم الشطح والأبيات تعتبر بعيدة عن واقع الأمية التي وصفت بها حياة الهميم وهي جارية على منوال شعر الشيخ بن العربي الحاتمي.
فلم يــــدري الناس أين توجـــــهنا
تركنــا البحــار الزاخــرات وراءنا
ومحاولة إلحاق هذه الأبيات بالشيخ الهميم لكي يجد صاحب القصة مبرراً مستساغاً ومقبولاً عند الناس لغرابته. والشيخ ود ضيف الله بعيد عن هذا الاقتراف ومبرأ عنه سواءاً وضع هذه القصة كما وردت إليه بحسن نية أم وضعها واضع بعده. إن الدفاع عن الشيخ الهميم ضرورة يقتضيها البحث العلمي لإسقاط الغث عن منهج التصوف وصالحي رجاله، وكل من يحاول الخوض في هذا الميدان وجب عليه التدقيق والوقوف على الحقائق من غير هوى أو انسياق وراء رغبات نفسية بعيدة عن الحق.
الشيخ الهـمـيم في مـيزان الـرجـال:
زامن الهميم كثير من رجال العلم والتصوف مشهود لهم بالفضل والخبرة العلمية، تجلت في مناظراتهم التي دارت في أبسط القضايا، مثل الجدل حول الدخان([13]) وغير ذلك من إمور كانت مقايسها ميزان الشرع، هذا التفهم ينوه بقدر الرجال العلمي في الوقوف مع الحق. وكان منهم أمثال يضرب بهم كالشيخ إدريس ود الأرباب، والشيخ صغيرون ومحمد صغيرون والشريف عبد الوهاب، وما دار بين هؤلاء من جدلٍ حول قضايا([14]) في وقتها لمعرفة الحق، والشيخ عبد الله العركي والشيخ يعقوب بن بانقا والشيخ دفع الله العركي والشيخ فـرح ود تكتوك الذي أخذ السلوك العملي على تلميذ الهميم الطوالي([15]). مع علم الأول وأمية الثاني، فهذا خير شاهد على صحة مسلك الرجل وتقواه.
وتـدور مسائل في مناظرة الشيخ إدريس والشريف عبد الوهاب في استدلاله بالشواهد الروحية بالشيخ الهميم والشيخ ود حسونه، والشريف عبد الوهاب لم يبعد شهادة الهميم في جدله الساخن بتجريح، والجرح والتعديل خطوة يعول عليها العلماء في الأخـذ والترك لخبر أو حديث. والشيخ عبد الله العركي هو رجل علمٍ أولاً واقف مع علمه في انتهاجه، حتى انه مع تقديره للشيخ البهاري أنه رجل علم وسلوك قد رفض الأخذ عليه في بداية الأمر، وهو أيضاً كان يعد شيخ طريقة، ومع هذا كانت نظرته للهميم الإجلال وكان يذهب لزيارته في المندرة قاطعاً الأميال الطويلة. والشيخ دفع الله العركي وبما عرف بمدرسة علمية كبرى تخرج عليه أمثال فـرح ود تكتوك يقول: "أولاد عبد الصادق وقعت لهم دعوة مستجابة ملكوا بها الدنيا". والشيخ عجيب المانجلك وهو رجل الدولة الإسلامية وكانت له اهتماماته الكبرى بقضايا الشرع ندب لها خيرة العلماء والقضاة، وقد كان يحضر مناظرات العلماء في بعض القضايا ليتأكد من صحة الحكم في الشيء، فهو كله تجلّة واحترام للهميم.
نظرات الرجال فيها التمحيص لحياة إنسان وهي الميزان التي تعرف به الحقائق، وما قيل في الرجل من خبرٍ متواترٍ يشهد له بالفضل والتقوى يدحض ما قيل فيه من فرى تتساقط كلماتها في مختبر التمحيص. فكل ما قيل عن الهميم رحمـه الله الآثار الفاضلة من محافظة لروح الدين والعمل به، وكذلك انعـدام نحلة فاسدة اقتفاها الجمع أو القلة من أهل الطريقة يدل على خيرية الموروث الذي تركه الرجل وتمسك به من كان على منهجه ومسلكه. وما ظهر منه من خيرٍ عم البلاد أضاء ظلمات الجهل بوقود نار القرآن في مختلف بقاع البلاد، وانتظام الأوقات وإعمارها بالمفروضات والجهر بكلمة التوحيد والإسرار بها، في الخلاوي وزوايا الجبال وقننها شواهد عقلانية، تنفي وتدحض ما أُفتري على الشيخ الجليل محمد ود عبد الصادق الهميم.
ويهم البعض أن ينظر إلى العظماء من خلال عثرات وقعت، ويسعى في تشهير هذا الخطأ ليشوه به عظيم حياة كثر منها الخير، محاولة النظر إلى الإنسان من خلال الأخطاء والتركيز عليها، وتناسي معالم الإحسان البارزة ظلم لا يغتفر. صحيح أن كل إنسان غير النبـوة لا يزكى بعصمة، ولكن علينا في ذلك الإنصافُ ووضع الصنوج الحقيقية في كفة الميزان، وهذا هو الذي تتطلبه معرفة العقل بأقدار الناس، فلا ظلم ولا تحيز، والحديث عن تزكية أو تجريح لحال إنسان، يجب أن تقدر فيه المسئولية، أي مسئولية الكلمة، والضمير هو الرقيب واللسان هو المسئول عن التعبير.
والتسليم لرواية خاطئة مع وجود الدلائل على عدم صحتها، هذا يوجب الوقوف والاعتذار، ولا نعني بهذا الصمت عن الخطأ في أمور تمس لباب الشرعيات أو محاولة تبرير خطأ وجد فعلاً، ولكن نعني ما ذكر عن الهميم والتمادي فيه مع عـدم الصحة، هذا التمادي رجوت أن لايسبق بعمد محاولة شطب حياة كانت معلماً بارزاً في الحياة السودانية، وكان لها الآثار الفاضلة التي وهبت لها شبابها متفانية من أجـل الإيمان وخدمة الـدين.
كل ما قيل عن الشيخ الهميم يدعو العقل والإنصاف ان نراجعه بجوانية مختلفة، ونظرة صادقة بعيـدة عن الهوى والأغراض المذمومة، تصدق فيها عفة اللسان وعفة القلم ويغظة الضمير لكي نحقق القول الكريم: {ألاَّ تَطغَوا في المِيزان}[سورة الرحمن:الآية 8 ].
([1]) التصوف في السودان، ص 188.
([2]) الطبقات ، ص 149.
([3]) الدوكة هي طاجن فخّارى لصناعة الكسرة.
([4]) الطباق - ص 45.
([5]) الطبقات - ص 149.
([6]) طبقات ضيف - ص 46-47.
([7]) دلّوت بالقرب من رفاعة.
([8]) الطبقات - ص 151.
([9]) رواية الشيخ محمد دفع الله من أحفاد الهميم – السوكي الصادقاب.
([10]) - مشيخة العبدلاب. - محمد صالح محي الدين.
([11]) مشيخة العبدلاب - محمد صالح محي الدين.
(1) مجلة القوم ، الصادر 5.
([13]) طبقات ، ص 9 – 11 صديق.
([14]) المرجع السابق.
([15]) المرجع السابق ، ص 94.